بسم الله الرحمن الرحيم
- هنا من فضلك !..
قالها د.أمجد لسائق سيارة الأجرة النحيل فركنت العربة، مستجيبة، أمام بناء ضخم.. " مطار الدار البيضاء "..
نزل الدكتور يحمل حقيبتين بيديه و خطى بسرعة نحو بوابة المطار الزجاجية التي ما إن اقترب حتى فُتحت لتنغلق من جديد بعد أن ابتلعته !
لامس وجنتيه هواء المكيف البارد.. و صدم أذنيه صمت عقيم، جامد !..
" غريب !.. "
تمتم بها د.أمجد و هو واقف وسط الساحة الفسيحة للمطار و الخالية تماما رغم كونه منتصف النهار من يوم الاثنين !..
مطّ شفتيه في تعجّب و تقدم و هو يلتفت في كل اتجاه...
الهدوء التام !..
صوت قرع حذائه البني الأنيق على البلاط اللامع..
الخواء المزعج !..
" أين الجميع ؟.. أ ليس هذا الجنون بعينه ؟... متى كان أكبر مطار في أيّ دولة فارغا ؟.. هـل... ؟.. "
و بلع أفكاره لما خرجت من إحدى الزوايا.. كرة ملونة تتدحرج !...
كرة كبيرة تدور حول نفسها ببطء و الألوان تتناوب على سطحها بهدوء مستفز وسط وجوم المكان و موته !..
" ماذا يعني هذا ؟.. "
ثم.. فجأة و قبل أن يحاول الفهم تردّد صدى ضحكات طفولية بالمكان و صوت ركض هنا و هناك !..
" تعالا هنا يا وغدان... سمير، خالد... تعالا حالا !.. "
لابد أنه أب ينادي طفليه اللذان يركضان بمرح.. و هذا البالون لهما حتما... لكنه لا يرى الآن سوى هذا الأخير و هو يستقر، ساكنا أمامه تماما !..
تنهّد بنفاذ صبر و عقد العزم فحثّ الخطى بجدية إلى المكان الذي خرجت منه الكرة.. دارت عيناه خلف عويناته السميكة بدهشة و ذعر لمّا لم يجد شيئا سوى كراسي نظيفة، فارغة !..
ضغط على صدغيه بقوة حتى يطرد الأفكار التي تدفعه إلى تصديق كل هذا !.. ثم نظر إلى أعلى و هتف بصوت شرخ الصمت:
" مرحباااا.. هل من أحد هنااااا ؟... مرحبااااا... هيهوووو !... لكن أين الجميع ؟ "
" بّووووووووم ! "
صوت انفجار صدّع المكان و أذنيه و اقتلع قلبه اقتلاعا فالتفت بذعر صارخ ليرى... الكرة إياها و قد تحولت إلى أشلاء !..
تسمّر مكانه للحظات لم يعرف طولها لأنها امتزجت باللاشيء الذي يطغى على المكان.. ثمّ..
" المرجو من السادة و السيدات، المسافرين الكرام الوقوف أمام بوابة الخروج.. الطائرة المتوجهة إلى باريس ستقلع بعد قليل "
كان وقع هذا الصوت الأنثوي، الحاد في قاعة المطار كالرّعد الذي يشق السماء في ساعة ما، بعد منتصف الليل، حيث الكل نيام !..
" مع من تتكلم هذه المجنونة بحق الله ؟.. و من يتلاعب بأعصابي هنا ؟ "
صعد السلم المتحرك ركضا ثم هرول تائها بين الأروقة.. باحثا عن شيء ما.. حتى توقف أخيرا أمام باب كُتب عليه بخط إلكتروني " غرفة المراقبة و الإعلام "..
أدار المقبض و اندفع داخل الغرفة و لم يستغرب إذ رآها خالية هي الأخرى إلا من الكراسي و الأجهزة..
كان مكبر الصوت منتصبا مكانه.. و شاشات أجهزة الكمبيوتر تضيء بوهجها ظلام الغرفة الباردة..
جدران زجاجية تسمح برؤية ساحة المطار التي كان بها قبل قليل و هي خاوية على عروشها !..
و في الجهة الأخرى.. منظر خارجي لمكان إقلاع و هبوط الطائرات.. و لا أثر لأي طائرة..
" أين إذن هذه الطائرة التي ستقلع ؟ "
مرّ بمحاذاة الأجهزة و لوحات المفاتيح و هو يلمسها بيديه في ذهول !..
ثم توقف فجأة متجمدا و فكه السفلي يرتعش و ينفتح ببطء... رجلاه أيضا كانتا ترتعشان !..
* * *
أ ليس هذا الجنون بعينه ؟
* * *
كان يحدّق بشاشات كاميرا المراقبة التي تعج بمئات المسافرين !..
الغريب أن هذه الكاميرات تصوّر، بالضبط، الساحة التي كان فيها قبل لحظات !..
حوّل نظره بسرعة إلى النافذة الزجاجية الضخمة، فارتعش قلبه بعنف لما وجد ((نفس الساحة)) خالية، غارقة في سباتها البارد !..
" كيف إذن ؟.. "
بدأت الآن أعصابه تنهار.. فقد أوشك على السقوط أرضا لولا أن يداه أمسكتا بأقرب كرسي..
لهث بانفعال و عيناه جاحظتان.. ثم التفت ببطء لمّا سمع صوتا ما..
على شاشة أخرى رأى منظر طائرة و هي تتحرك ببطء في مسارها ثم تندفع بسرعة لترتفع أخيرا عن الأرض..
انتقل بصره رغما عنه إلى النافذة الخلفية حيث يظهر فناء الطائرات.. و كان خاليا هو الآخر !..
اعتدل مكانه و بلع ريقه بصعوبة و هو يمشي بحذر إلى حيث المكرفون.. أمسكه بيد مرتعشة، أدنا فمه ببطء و لبث برهة قبل أن يصرخ:
" أينكم يا ناس ؟؟.. النجدة !.. أنا في مكان فارغ... لا.. أنا في المطار.. و إني لأراكم الآن.. لكني لا أراكم !.. "
و ما إن أنهى نداءه المستغيث حتى نبض قلبه نبضة قوية انتشر صداها بصدره طويلا و أحدثت سخونة خنقت أضلعه !..
لقد سمع صوته و هو يخرج من المكبّر... أنثويا !!..
* * *
ركض.. قفز الدرجات المتحركة بل طار فوقها و سرعته كانت تتناقض مع سنه لدرجة مخيفة !..
قصد البوابة الزجاجية و لم يتوقف حتى اصطدم بها فارتجّت بعنف !..
و نظر إليها بدهشة !..
المفروض أن تنفتح قبل أن يصل إليها !..
رأى المارة بالخارج يمشون بسلام.. و سيل السيارات لا ينقطع عن الانسياب..
شعر براحة باردة تسري بشرايينه و بدأ يشير بيديه و يصيح !..
ثم ثار شيئا فشيئا حتى أصبح مسعورا تماما فخبط الباب و ركله ثم ضربه برأسه ضربات مخيفة حتى سال خيط من الدم فوق جبهته !..
و لم ينتبه له أحدهم !..
أ لا يسمعون ؟.. أ لن يلتفت واحد فقط ليراه ؟..
صرخ بكل ما أوتي من قوة حتى وهن صوته و احمّر وجهه و انتابته نوبة سعال حادة فسكت ثم عاود ضرب الباب بيديه و بأقصى قوة ممكنة حتى كادت مفاصله تنخلع من مكانها..
قضى عليه الرعب و العصبية الجنونية فسقط على ركبتيه منهارا و بكى كما يبكي الأطفال !..
و فجأة !..
* * *
- أمجد عزيزي... أمجد ؟...
- أممم.... لا، لا... إنهم يتجاهلونني.. سأموت في هذا الجحيم !..
- سلامتك يا حبيبي، من هم الذين يتجاهلونك ؟.. و أي جحيم تتكلم عنه ؟...
انفتح الجفنين على عينين حمراوتين تنظران إلى فوق بذعر... ثم سرعان ما اعتدل أمجد في فراشه و فرك عينيه بقوة و هو ينظر حوله غير مصدق..
ثم فتح شفتيه الشاحبتين أخيرا و وجّه كلامه إلى زوجته الشابة:
- أين أنا ؟..
(رابعة) و هي تبتسم برقة: قالت
- لا وقت لديك يا حبيبي.. لقد كان، ربما، كابوسا مريعا !.. ستحكي لي عنه بالتفصيل فيما بعد، أما الآن فأسرع لتلحق بندوة الأطباء في باريس.. الطائرة ستقلع بعد ساعة !..
END
من الأرشيف