لم تكن ظاهرة الانتحار تلاحظ باهتمام كبير في الجيش الأمريكي حتى وقت قريب ولكن الدراسات التي تمت بعد حرب فيتنام أوضحت ان معدلات الانتحار في القوات التي شاركت في القتال في فيتنام كانت مرتفعة جداً بعد العودة إلى أمريكا، فقد قدرت بعض الدراسات حالات الانتحار بين الجنود السابقين بحوالي (20) ألف حالة انتحار. واليوم يوجد في الولايات المتحدة 25( مليونا) من المحاربين القدامى منهم 1,6 مليون خدموا في العراق وأفغانستان.
وقد جاء في أحدث التقارير
(أذاعته محطة سي بي إس الأمريكية 15 تشرين الثاني 2007 ، عن دراسة استمرت خمسة أشهر حول جنود أمريكان شاركوا بالقتال في أفغانستان والعراق) بأن القوات المسلحة الأمريكية بعامة تعاني من "وباء الانتحار".. ومعدلات الانتحار آخذة بالارتفاع في صفوف القوات الأمريكية المحتلة وبشكل سريع إذ بلغ عدد المنتحرين من الجنود العائدين إلى بيوتهم في إجازات من الجيش (6256) عسكريا تتراوح أعمارهم
ما بين 20( و 24 سنة) أي بمعدل 120 حالة انتحار أسبوعيا.
أما بالنسبة لأوضاع الجنود الأمريكيين في العراق فإن الحرب قد تسبب في إصابتهم بإصابات وجروح بالغة الخطورة لم تكن معروفة فيما سبق للقوات الأمريكية من نزاعات.. فقد كشفت دراسة قام بها الاطباء في الجيش أن ما يتراوح
بين 15( و 20%) من القوات الأمريكية المحتلة في العراق يعانون من أمراض نفسية قد تدفعهم إلى الانتحار ، بسبب الحرب المستمرة هناك ومصيرهم المجهول.. بل أكد اعتراف جديد للبنتاغون بأن معدل انتحار الجنود الأمريكان في العراق يواصل ارتفاعه مع ارتفاع نسبة الذين يعانون من اضطرابات نفسية في العام 2006 إلى (70%). هذه المعطيات الإحصائية تشير إلى خلل كبير في الصحة العقلية للجنود الأمريكيين المنتشرين في مناطق التوتر والقتال في العالم (خاصة في العراق وأفغانستان).. وقد عبر عن هذا الخلل أحد ضباط البحرية الأمريكية السابقين بقوله "صحيح أنه ليس كل من يعود من الحرب يعود جريحاً .. ولكن بالمقابل فإن لا أحد يعود دون أن يكون قد تغير"، وأما عن أسباب هذه الانهيارات فقد عزاها تقرير خاص بـ "تقييم الوضع النفسي لأفراد الجيش الأمريكي داخل الولايات المتحدة أو خارجها تجريه وزارة الدفاع الأمريكية سنوياً" ، بأن معظم الجنود المنتحرين كانوا يعانون إما من الانعزالية وفشل بعلاقاتهم الاجتماعية ، أو من مشكلات مالية أو قانونية ، أو لأسباب تتعلق
بـ"عمليات احتلالية"،، .. ولعل الأمور مرشحة للتفاقم حيث يعيش بعضهم في أزمة نفسية مستعصية بسبب الحرب .. وأما بالنسبة للجنود المنتشرين في العالم ، فإنه كلما زاد عدد القتلى ، ضعفت معنويات الأميركيين بعامة. أما الجنود فيتذمرون ويعلنون عن مللهم.. فهذا جندي يؤكد أن "اليوم الجميع منهارون .. راغبون في العودة إلى منازلهم"، ،.. فانهيار معنوياتهم عائد إلى غياب أي أفق لعودتهم.. فإن "أسوأ أمر بالنسبة إليهم هو عدم معرفتهم متى يعودون إلى ديارهم ".. "الجميع سئم وكلهم يريدون العودة إلى بيوتهم" .. إنهم يعانون من القلق والتوتر ..وباتت أعراض الانهيار الأكثر شيوعاً .. كما يعانون من "الإنهاك" و" قلة النوم"عند بعضهم .. في حين أن بعضاً منهم "يمضي وقت فراغه في النوم" ..وبعضهم ينام لساعات طويلة .. غير أنهم لا يجدون لديهم الطاقة الضرورية للنهوض" (بحسب أقوال الجنود أنفسهم).
أما الأسباب التي جاءت على ألسنة الجنود فتعبر في معظمها عن الخوف والتوتر والاضطراب النفسي ..فهذا جندي تخيفه كتابة على أحد جدران مدينة الفلوجة تقول "ليبارك الله مقاومي حي المساجد" .. وآخر يقول "انهارت معنوياتي عندما قالوا لنا لدينا مهام أخرى لكم هنا".. في حين يقول زميل له "أتينا إلى هنا بعقلية المحارب وليس بذهنية قوات حفظ سلام"... وضابط يعلق "إنهم لا يطمئنون لدورهم في حفظ السلام" .. وآخر يريد فقط إعلام بوش بـ"أن الجميع تعب هنا".."الجنود هنا تعبوا وملوا" .. وآخر يقول "ليعيدونا إلى ديارنا وليأتوا بآخرين محلنا".
وأما بالنسبة لجنود الاحتلال البريطاني في العراق فإنهم ليسوا أحسن حالاً من نظرائهم الأمريكيين.. فهم أيضاً يعانون من ظاهرة الانتحار والأمراض النفسية والعقلية.. فقد ذكرت صحيفة (الغارديان) بأن "ثلثي القتلى من الجنود البريطانيين في العراق سقطوا في عمليات قتالية ، بينما توفي الباقون نتيجة أمراض أو حوادث ، وقد يكون الانتحار أحد أسبابها".. أما صحيفة (الاندبندنت) فقد ذكرت بأن وزارة الدفاع البريطانية اعترفت بان (4017) جندياً تم اجلاؤهم من العراق لأسباب طبية مع أن الحكومة البريطانية تواجه اتهامات بالتكتم على الخسائر البشرية الحقيقية جراء مشاركتها في غزو العراق: (كحال الإدارة الأمريكية التي لا تكشف إلا عن (30%) من خسائرها وتتكتم عن الباقي ، وهذا ما أثبتته إحصائية موثقة صدرت عن مركز صحافة
السلم والحرب في بغداد).
حقاً إن الإدارة الأمريكية باتت تواجه جملة من الإشكاليات منها:
1. عزوف الشباب الأمريكي عن التَطوع في الجيش للتعويض عَن أعداد القتلى والجرحى في الحرب ، مما اضطرها للاستعانة بالمرتزقة من طالبي الجنسية و شركات الأمن (من أمثال بلاك ووتر) .. فضلاً عن الأزمة الخانقة التي تحياها أمريكا في تمويلها للحرب.
2. الإنكار المستمر من قبل الإدارة الأمريكية .. فقد أكد التقرير الذي بثته محطة "سي بي إس"
( يوم 15 ـ 11 ـ )2007 إن وزارة الدفاع الأمريكية لا تعترف بهذه الحالات وتعتبرها حالات غير عسكرية ولا تدخل ضمن خسائر الجيش الأمريكي .. في حين يؤكد التقرير أن الأرقام الفعلية للانتحار تشكل ضعف عدد الحالات المعلنة. أما والد أحد الجنود المنتحرين في عام 2005 عن عمر ( 23 عاماً) فيقول بأن "الأوساط الرسمية العسكرية لا تريد الكشف عن المشكلة". ولكن وبرغم "الإنكار" فإنه بالأمس القريب 24( ـ 10 ـ )2007 أصدر الكونغرس قانونا لـ"خفض معدلات انتحار الجنود الأمريكيين" أطلق عليه قانون"جوشوا أومفيغ" (جندي أمريكي من أيوا مات منتحرا وهو في سن الـ22 وذلك بعد مرور أحد عشر شهرا على الاحتلال الأمريكي للعراق).
3. أكدت جميع الدراسات الامريكية بأن عدد الجنود الذين يميلون للانتحار من خريجي الوحدات التي قاتلت في العراق وأفغانستان ، يبلغ ضعف الجنود من الوحدات الأخرى في الجيش الأمريكي... وهي في ارتفاع مستمر بالرغم من وجود تسعة فرق طبية متخصصة تضم أطباء نفسانيين وأخصائيين اجتماعيين لمساعدتهم على تخطي الضغوط الناشئة عن الظروف القتالية ، والتعايش معها،، نخلص من ذلك بما أكده الكثيرون (ومنهم آرون جلانتز: إنتر برس سرفيس ، 16 - 5 - م2007 )
بأن "الانتحار بات سلاح الجنود الأمريكيين للنجاة من مستنقع العراق.. بل للتخلص من كابوس مرعب ومن حياة هي أشبه بالموت البطيء،، فالاضطرابات النفسية التي يؤدي بع ضها إلى الانتحار إنما هي تعبير عن أزمة النفوس المرتعبة.
فهل يدرك الأمريكيون حجم المشاكل التي يعانون منها؟ ألم يتعلموا شيئا من دروس التاريخ والجغرافيا والأخلاق؟ لقد طال ليل بغداد وكابول .. ولكن الفجر آت ، بل إنه لقريب جداً.. فها هم ينتحرون بالفعل على أسوار بغداد،،